ثُمَّ إنَّ قُرَيشًا اشتَدَّ أمرُهُم لِلشَّقَاءِ الَّذِي أصَابَهُم فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَمَن أسلَمَ مَعَهُ مِنهُم، فَأغرَوا بِه سُفَهَاءَهُم، فَكَذَّبُوهُ وَآذَوهُ، وَرَمَوهُ بِالشِّعرِ وَالسِّحرِ وَالكِهَانَةِ وَالجُنُونِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُظهِرٌ لِأمرِ اللَّهِ لَا يَستَخفِي بِهِ، مُبَادٍ لَهُم بِمَا يَكرَهُونَ مِن عَيبِ دِينِهِم، وَاعتِزَالِ أوثَانِهِم، وَفِرَاقِهِ إيَّاهُم عَلَى كُفرِهِم.
قَالَ عَبد اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ: حَضَرتُهُم، وَقَد اجتَمَعَ أشرَافُهُم يَومًا فِي الحِجرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: مَا رَأينَا مِثلَ مَا صَبَرنَا عَلَيهِ مِن أمرِ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ ! سَفَّهَ أحلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَد صَبَرنَا مِنهُ عَلَى أمرٍ عَظِيمٍ!
فَبَينَا هُم فِي ذَلِكَ إذ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَأقبَلَ يَمشِي حَتَّى استَلَمَ الرُّكنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِم طَائِفًا بِالبَيتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِم غَمَزُوهُ بِبَعضِ القَولِ. فَعَرَفتُ ذَلِكَ فِي وَجهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِم الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثلِهَا، فَعَرَفتُ ذَلِكَ فِي وَجهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِم الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثلِهَا، فَوَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: أتَسمَعُونَ يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ، أمَا وَاَلَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَقَد جِئتُكُم بِالذَّبحِ فَأخَذَت القَومَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنهُم رَجُلٌ إلَّا كَأنَّمَا عَلَى رَأسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إنَّ أشَدَّهُم فِيهِ وَصَاةً قَبلَ ذَلِكَ لَيَرفَؤُهُ بِأحسَنِ مَا يَجِدُ مِن القَولِ، حَتَّى إنَّهُ لِيَقُولَ: انصَرِف يَا أبَا القَاسِم، فو الله مَا كُنتَ جَهُولًا.
فَانصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا كَانَ الغَدُ اجتَمَعُوا فِي الحِجرِ وَأنَا مَعَهُم، فَقَالَ بَعضُهُم لِبَعضِ: ذَكَرتُم مَا بَلَغَ مِنكُم، وَمَا بَلَغَكُم عَنهُ، حَتَّى إذَا بَادَاكُم بِمَا تَكرَهُونَ تَرَكتُمُوهُ.
فَبَينَمَا هُم فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيهِم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَوَثَبُوا إلَيهِ وَثبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأحَاطُوا بِهِ، يَقُولُونَ: أنتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا كَانَ يَقُولُ مِن عَيبِ آلِهَتِهِم وَدِينِهِم، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: نَعَم: أنَا الَّذِي أقُولُ ذَلِكَ.
قَالَ: فَلَقَد رَأيتُ رَجُلًا مِنهُم أخَذَ بِمِجمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ: فَقَامَ أبُو بَكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ دُونَهُ، وَهُوَ يَبكِي وَيَقُولُ: أتَقتُلُونَ رَجُلًا أن يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ؟ ثُمَّ انصَرَفُوا عَنهُ، فَإنَّ ذَلِكَ لَأشَدُّ مَا رَأيتُ قُرَيشًا نَالُوا مِنهُ قَطُّ.
Incited against him | فَأغرَوا بِه |
أى مجاهرٍ |
مُبَادٍ |
يُشيرون إليه بلأعين استهزاء طعنوا فِيهِ Mocking through winking |
غَمَزُوهُ |
كناية عن الهلاك إن لم يؤمنوا |
لَقَد جِئتُكُم بِالذَّبحِ |
الوصية، يعني الذين كانوا يحرصون عليه
ويوصون بإيذائه |
وَصَاةً |
يهدئه ويسكنه ويرفق بِهِ وَيَدعُو لَهُ |
يرفؤه |
Seizing his clothes | بِمِجمَعِ رِدَائِهِ |