ثُمَّ إنَّهُ قَامَ فِي نَقضِ تِلكَ الصَّحِيفَةِ الَّتِي تَكَاتَبَت فِيهَا قُرَيشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيَّ المُطَّلِبِ نَفَرٌ مِن قُرَيشٍ، وَلَم يُبلَ فِيهَا أحَدٌ أحسَنَ مِن بَلَاءِ هِشَامِ بنِ عَمرِو بنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ بنِ حَبِيبِ بنِ نَصرِ بنِ جَذِيمَةَ ابن مَالِكِ بنِ حِسلِ بنِ عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أنَّهُ كَانَ ابنَ أخِي نَضلَةَ بنِ هَاشِمِ ابن عَبدِ مَنَافٍ لِاُمِّهِ، فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصَلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَومِهِ فَكَانَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَأتِي بِالبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُطَّلِبِ فِي الشِّعبِ لَيلًا، قَد أوقَرَهُ طَعَامًا، حَتَّى إذَا أقبَلَ بِهِ فَمَ الشِّعبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِن رَأسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنبِهِ، فَيَدخُلُ الشِّعبَ عَلَيهِم ثُمَّ يَأتِي بِهِ قَد أوقَرَهُ بَزًّا ، فَيَفعَلُ بِهِ مِثلَ ذَلِكَ.

ثُمَّ إنَّهُ مَشَى إلَى زُهَيرِ بنِ أبِي اُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخزُومٍ، وَكَانَت اُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنتَ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيرُ، أقَد رَضِيتَ أن تَأكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنكِحَ النِّسَاءَ، وَأخوَالُكَ حَيثُ قَد عَلِمتَ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبتَاعُ مِنهُم، وَلَا يَنكِحُونَ وَلَا يُنكَحُ إلَيهِم؟ أمَا إنِّي أحلِفُ باللَّه أن لَو كَانُوا أخوَالَ أبِي الحَكَمِ بنِ هِشَامٍ، ثُمَّ دَعَوتَهُ إلَى مِثلِ مَا دَعَاكَ إلَيهِ مِنهُم، مَا أجَابَكَ إلَيهِ أبَدًا، قَالَ: وَيحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أصنَعُ؟ إنَّمَا أنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاَللَّهِ لَو كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمتُ فِي نَقضِهَا حَتَّى أنقُضَهَا، قَالَ: قَد وَجَدتَ رَجُلًا قَالَ: فَمَن هُوَ؟ قَالَ: أنَا، قَالَ لَهُ زُهَيرٌ: أبغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا

فَذَهَبَ إلَى المُطعِمِ بنِ عَدِيِّ بنِ نَوفَلِ بنِ عَبدِ مَنَافٍ ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُطعِمُ أقَد رَضِيتَ أن يَهلِكَ بَطنَانِ مِن بَنِي عَبدِ مَنَافٍ، وَأنتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، مُوَافِقٌ لِقُرَيشِ فِيهِ! أمَا وَاَللَّهِ لَئِن أمكَنتُمُوهُم مِن هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُم إلَيهَا مِنكُم سِرَاعًا، قَالَ وَيحَكَ! فَمَاذَا أصنَعُ؟ إنَّمَا أنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قَد وَجَدتَ ثَانِيًا، قَالَ: مَن هُوَ؟ قَالَ: أنَا، قَالَ: أبغِنَا ثَالِثًا، قَالَ: قَد فَعَلتُ، قَالَ: مَن هُوَ؟ قَالَ: زُهَيرُ بنُ أبِي اُمَيَّةَ، قَالَ: أبغِنَا رَابِعًا.

فَذَهَبَ إلَى البَختَرِيِّ بنِ هِشَام، فَقَالَ لَهُ نَحوًا مِمَّا قَالَ لِلمُطعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: وَهَل مِن أحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: مَن هُوَ؟ قَالَ: زُهَيرُ ابن أبِي اُمَيَّةَ، وَالمُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وَأنَا مَعَكَ، قَالَ: أبغِنَا خَامِسًا.

فَذَهَبَ إلَى زَمعَةَ بنِ الأسوَدِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ أسَدٍ، فَكَلَّمَهُ، وَذكر لَهُ قَرَابَتَهُم وَحَقَّهُم، فَقَالَ لَهُ: وَهَل عَلَى هَذَا الأمرِ الَّذِي تَدعُونِي إلَيهِ مِن أحَدٍ؟ قَالَ: نَعَم، ثُمَّ سَمَّى لَهُ القَومَ.

فَاتَّعَدُوا خَطمَ الحَجُونِ لَيلًا بِأعلَى مَكَّةَ، فَاجتَمَعُوا هُنَالِكَ. فَأجمَعُوا أمرَهُم وَتَعَاقَدُوا عَلَى القِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيرٌ: أنَا أبدَؤُكُم، فَأكُونُ أوَّلَ مَن يَتَكَلَّمُ.

فَلَمَّا أصبَحُوا غَدَوا إلَى أندِيَتِهِم، وَغَدَا زُهَيرُ بنُ أبِي اُمَيَّةَ عَلَيهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالبَيتِ سَبعًا، ثُمَّ أقبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أهلَ مَكَّةَ، أنَأكُلُ الطَّعَامَ وَنَلبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبتَاعُ مِنهُم، وَاَللَّهِ لَا أقعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ القَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.

قَالَ أبُو جَهلٍ: وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ المَسجِدِ: كَذَبتَ وَاَللَّهِ لَا تُشَقُّ!

قَالَ زَمعَةُ بنُ الأسوَدِ: أنتَ وَاَللَّهِ أكذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيثُ كُتِبَت، قَالَ أبُو البَختَرِيِّ: صَدَقَ زَمعَةُ، لَا نَرضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ، قَالَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صَدَقتُمَا وَكَذَبَ مَن قَالَ غَيرَ ذَلِكَ، نَبرَاُ إلَى اللَّهِ مِنهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا، قَالَ هِشَامُ ابن عَمرٍو نَحوًا مِن ذَلِكَ. فَقَالَ أبُو جَهلٍ: هَذَا أمرٌ قُضِيَ بِلَيلِ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيرِ هَذَا المَكَانِ. قَالَ : وَأبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ المَسجِدِ، فَقَامَ المُطعِمُ إلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الأرَضَةَ قَد أكَلَتهَا، إلَّا «بِاسمِكَ اللَّهمّ»

وَكَانَ كَاتِبَ الصَّحِيفَةِ مَنصُورُ بنُ عِكرِمَةَ. فَشُلَّت يَدُهُ فِيمَا يَزعُمُونَ.