ثُمَّ إنَّ مُصعَبَ بنَ عُمَيرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَن خَرَجَ مِن الأنصَارِ مِن المُسلِمِينَ إلَى المَوسِمِ مَعَ حَجَّاجِ قَومِهِم مِن أهلِ الشِّركِ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ، فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ العَقَبَةَ، مِن أوسَطِ أيَّامِ التَّشرِيقِ، حِينَ أرَادَ اللَّهُ بِهِم مَا أرَادَ مِن كَرَامَتِهِ، وَالنَّصرِ لِنَبِيِّهِ، وَإعزَازِ الإسلَامِ وَأهلِهِ، وَإذلَالِ الشِّركِ وَأهلِهِ.

قَالَ كَعبِ بنِ مَالِكِ:
خَرَجنَا فِي حُجَّاجِ قَومِنَا مِن المُشرِكِينَ، وَقَد صَلَّينَا وَفَقِهنَا، وَمَعَنَا البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ ، سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا، فَلَمَّا وَجَّهنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجنَا مِن المَدِينَةِ، قَالَ البَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إنِّي قَد رَأيت رَأيا، فو الله مَا أدرِي، أتُوَافِقُونَنِي عَلَيهِ، أم لَا؟ قَالَ: قُلنَا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَد رَأيتُ أن لَا أدَعَ هَذِهِ البَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهرٍ، يَعنِي الكَعبَةَ، وَأن اُصَلِّيَ إلَيهَا. قَالَ: فَقُلنَا، وَاَللَّهِ مَا بَلَغَنَا أنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَّا إلَى الشَّامِ ، وَمَا نُرِيدُ أن نُخَالِفَهُ. قَالَ: فَقَالَ: إنِّي لَمُصَلٍّ إلَيهَا. قَالَ: فَقُلنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفعَلُ. قَالَ: فَكُنَّا إذَا حَضَرَت الصَّلَاةُ صَلَّينَا إلَى الشَّامِ، وَصَلَّى إلَى الكَعبَةِ، حَتَّى قَدِمنَا مَكَّةَ. قَالَ: وَقَد كُنَّا عِبنَا عَلَيهِ مَا صَنَعَ، وَأبَى إلَّا الإقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا قَدِمنَا مَكَّةَ قَالَ لِي: يَا بن أخِي، انطَلِق بِنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى نَسألَهُ عَمَّا صَنَعتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإنَّهُ وَاَللَّهِ لَقَد وَقَعَ فِي نَفسِي مِنهُ شَيءٌ، لِمَا رَأيتُ مِن خِلَافِكُم إيَّايَ فِيهِ.

قَالَ: فَخَرَجنَا نَسألُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَكُنَّا لَا نَعرِفُهُ، وَلَم نَرَهُ قَبلَ ذَلِكَ فَلَقِينَا رَجُلًا مِن أهلِ مَكَّةَ، فَسَألنَاهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَل تَعرِفَانِهِ؟ فَقُلنَا: لَا، قَالَ: فَهَل تَعرِفَانِ العَبَّاسَ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قَالَ: قُلنَا: نَعَم- قَالَ: وَقَد كُنَّا نَعرِفُ العَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقدَمُ عَلَينَا تَاجِرًا- قَالَ: فَإذَا دَخَلتُمَا المَسجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الجَالِسُ مَعَ العَبَّاسِ. قَالَ: فَدَخَلنَا المَسجِدَ فَإذَا العَبَّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ مَعَهُ، فَسَلَّمنَا ثُمَّ جَلَسنَا إلَيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِلعَبَّاسِ: هَل تَعرِفُ هَذَينِ الرَّجُلَينِ يَا أبَا الفَضلِ؟ قَالَ: نَعَم، هَذَا البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ، سَيِّدُ قَومِهِ، وَهَذَا كَعبُ بنُ مَالك. قَالَ: فو الله مَا أنسَى قَولَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: لشاعر؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ : فَقَالَ لَهُ البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي خَرَجتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَقَد هَدَانِي اللَّهُ لِلإسلَامِ، فَرَأيتُ أن لَا أجعَلَ هَذِهِ البَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهرٍ، فَصَلَّيتُ إلَيهَا، وَقَد خَالَفَنِي أصحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفسِي مِن ذَلِكَ شَيءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَد كُنتَ عَلَى قِبلَةٍ لَو صَبَرتَ عَلَيهَا. قَالَ: فَرَجَعَ البَرَاءُ إلَى قِبلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى مَعَنَا إلَى الشَّامِ.

ثُمَّ خَرَجنَا إلَى الحَجِّ، وَوَاعَدنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالعَقَبَةِ مِن أوسَطِ أيَّامِ التَّشرِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغنَا مِن الحَجِّ، وَكَانَت اللَّيلَةُ الَّتِي وَاعَدنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو ابن حرَام أبُو جَابِرٌ، سَيِّدٌ مِن سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِن أشرَافِنَا ، أخَذنَاهُ مَعَنَا، وَكُنَّا نَكتُمُ مَن مَعَنَا مِن قَومِنَا مِن المُشرِكِينَ أمرَنَا، فَكَلَّمنَاهُ وَقُلنَا لَهُ: يَا أبَا جَابِرٍ، إنَّكَ سَيِّدٌ مِن سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِن أشرَافِنَا، وَإنَّا نَرغَبُ بِكَ عَمَّا أنتَ فِيهِ أن تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَونَاهُ إلَى الإسلَامِ، وَأخبَرنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إيَّانَا العَقَبَةَ. قَالَ: فَأسلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا العَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.

فَنِمنَا تَلِكَ اللَّيلَةَ مَعَ قَومِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيلِ خَرَجنَا مِن رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ القَطَا مُستَخفِينَ، حَتَّى اجتَمَعنَا فِي الشِّعبِ عِندَ العَقَبَةِ، وَنَحنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امرَأتَانِ مِن نِسَائِنَا: نُسَيبَةُ بِنتُ كَعبٍ ، وَأسمَاءُ بِنتُ عَمرِو بنِ عَدِيِّ.

فَاجتَمَعنَا فِي الشِّعبِ نَنتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ العَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، وَهُوَ يَومَئِذٍ عَلَى دِينِ قَومِهِ، إلَّا أنَّهُ أحَبَّ أن يَحضُرَ أمرَ ابنِ أخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ. فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أوَّلَ مُتَكَلِّمٍ العَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعشَرَ الخَزرَجِ- قَالَ: وَكَانَت العَرَبُ إنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الحَيَّ مِن الأنصَارِ: الخَزرَجَ، خَزرَجَهَا وَأوسَهَا-: إنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيثُ قَد عَلِمتُم وَقَد مَنَعنَاهُ مِن قَومِنَا، مِمَّن هُوَ عَلَى مِثلِ رَأيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزٍّ مِن قَومِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإنَّهُ قَد أبَى إلَّا الِانحِيَازَ إلَيكُم، وَاللُّحُوقَ بِكُم، فَإن كُنتُم تَرَونَ أنَّكُم وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوتُمُوهُ إلَيهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّن خَالَفَهُ، فَأنتُم وَمَا تَحَمَّلتُم مِن ذَلِكَ، وَإن كُنتُم تَرَونَ أنَّكُم مُسلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعدَ الخُرُوجِ بِهِ إلَيكُم، فَمِن الآنَ فَدَعُوهُ، فَإنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِن قَومِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ: فَقُلنَا لَهُ: قَد سَمِعنَا مَا قُلتُ، فَتَكَلَّم يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذ لِنَفسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أحبَبتُ.

فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَا القُرآنَ، وَدَعَا إلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الإسلَامِ، ثُمَّ قَالَ اُبَايِعُكُم عَلَى أن تَمنَعُونِي مِمَّا تَمنَعُونَ مِنهُ نِسَاءَكُم وَأبنَاءَكُم. قَالَ: فَأخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَم، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيًّا ، لَنَمنَعَنَّكَ مِمَّا نَمنَعُ مِنهُ اُزُرَنَا ، فَبَايِعنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحنُ وَاَللَّهِ أبنَاءُ الحُرُوبِ، وَأهلُ الحَلقَةِ ، وَرِثنَاهَا كَابِرًا عَن كَابِرٍ

فَاعتَرَضَ القَولَ، وَالبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أبُو الهَيثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ بَينَنَا وَبَينَ الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإنَّا قَاطِعُوهَا- يَعنِي اليَهُودَ- فَهَل عَسَيتَ إن نَحنُ فَعَلنَا ذَلِكَ ثُمَّ أظهَرَكَ اللَّهُ أن تَرجِعَ إلَى قَومِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَل الدَّمَ الدَّمَ، وَالهَدمَ الهَدمَ ، أنَا مِنكُم وَأنتُم مِنِّي، اُحَارِبُ مَن حَارَبتُم، وَاُسَالِمُ مَن سَالَمتُم.

وَقَد كَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: أخرِجُوا إلَيَّ مِنكُم اثنَي عَشَرَ نَقِيبًا، لِيَكُونُوا عَلَى قَومِهِم بِمَا فِيهِم. فَأخرَجُوا مِنهُم اثنَي عَشَرَ نَقِيبًا، تِسعَةً مِن الخَزرَجِ، وَثَلَاثَةً مِن الأوسِ.

كَانَ أوَّلَ مَن ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ، ثُمَّ بَايَعَ بَعدُ القَومُ.

فَلَمَّا بَايَعنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيطَانُ مِن رَأسِ العَقَبَةِ بِأنفَذِ صَوتٍ سَمِعتُهُ قَطُّ: يَا أهلَ الجُبَاجِبِ- وَالجُبَاجِبُ: المَنَازِلُ - هَل لَكُم فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ، قَد اجتَمَعُوا عَلَى حَربِكُم. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أزَبُّ العَقَبَةِ، هَذَا ابنُ أزيَبَ- قَالَ ابنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابنُ اُزَيبٍ - أتَسمَعُ أي عَدُوَّ اللَّهِ، أمَا وَاَللَّهِ لَأفرُغَنَّ لَكَ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ارفَضُّوا إلَى رِحَالِكُم. قَالَ: فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضلَةَ: وَاَللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ: إن شِئتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أهلِ مِنًى غَدًا بِأسيَافِنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: لَم نُؤمَر بِذَلِكَ، وَلَكِن ارجِعُوا إلَى رِحَالِكُم. قَالَ: فَرَجَعنَا إلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمنَا عَلَيهَا حَتَّى أصبَحنَا. فَلَمَّا أصبَحنَا غَدَت عَلَينَا جُلَّةُ قُرَيشٍ، حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعشَرَ الخَزرَجِ، إنَّهُ قَد بَلَغَنَا أنَّكُم قَد جِئتُم إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَستَخرِجُونَهُ مِن بَينِ أظهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَربِنَا، وَإنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مِن حَيٍّ مِن العَرَبِ أبغَضُ إلَينَا، أن تَنشَبَ الحَربُ بَينَنَا وَبَينَهُم، مِنكُم. قَالَ: فَانبَعَثَ مَن هُنَاكَ مِن مُشرِكِي قَومِنَا يَحلِفُونَ باللَّه مَا كَانَ مِن هَذَا شَيءٌ، وَمَا عَلِمنَاهُ. قَالَ: وَقَد صَدَقُوا، لَم يَعلَمُوهُ. قَالَ: وَبَعضُنَا يَنظُرُ إلَى بَعضٍ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ القَومُ، وَفِيهِم الحَارِثُ بنُ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ المَخزُومِيُّ، وَعَلَيهِ نَعلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ . قَالَ فَقُلتُ لَهُ كَلِمَةً- كَأنِّي اُرِيدُ أن أشرَكَ القَومَ بِهَا فِيمَا قَالُوا-: يَا أبَا جَابِرٍ، أمَا تَستَطِيعُ أن تَتَّخِذَ، وَأنتَ سَيِّدٌ مِن سَادَاتِنَا، مِثلَ نَعلَي هَذَا الفَتَى مِن قُرَيشٍ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الحَارِثُ، فَخَلَعَهُمَا مِن رِجلَيهِ ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إلَيَّ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لِتَنتَعِلَنَّهُمَا. قَالَ: يَقُولُ: أبُو جَابِرٍ: مَه، أحفَظتَ وَاَللَّهِ الفَتَى، فَاردُد إلَيهِ نَعلَيهِ. قَالَ: قُلتُ: وَاَللَّهِ لَا أرُدُّهُمَا ، فَألٌ وَاَللَّهِ صَالِحٌ، لَئِن صَدَقَ الفَألُ لَأسلُبَنَّهُ.
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبدُ اللَّهِ بنُ أبِي بَكرٍ: أنَّهُم أتَوا عَبدَ اللَّهِ بنَ اُبَيِّ ابن سَلُولَ، فَقَالُوا لَهُ مِثلَ مَا قَالَ كَعبٌ مِن القَولِ، فَقَالَ لَهُم: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الأمرَ جَسِيمٌ، مَا كَانَ قَومِي لِيَتَفَوَّتُوا عَلَيَّ بِمِثلِ هَذَا، وَمَا عَلِمتُهُ كَانَ. قَالَ:
فَانصَرَفُوا عَنهُ.

وَنَفَرَ النَّاسُ مِن مِنًى، فَتَنَطَّسَ القَومُ الخَبَرَ، فَوَجَدُوهُ قَد كَانَ، وَخَرَجُوا فِي طَلَبِ القَومِ، فَأدرَكُوا سَعدَ بنَ عُبَادَةَ بِأذَاخِرَ ، وَالمُنذِرَ بنَ عَمرٍو، أخَا بَنِي سَاعِدَةَ بنِ كَعبِ بنِ الخَزرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا. فَأمَّا المُنذِرُ فَأعجَزَ القَومَ، وَأمَّا سَعدٌ فَأخَذُوهُ، فَرَبَطُوا يَدَيهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسعِ رَحلِهِ، ثُمَّ أقبَلُوا بِهِ حَتَّى أدخَلُوهُ مَكَّةَ يَضرِبُونَهُ، وَيَجذِبُونَهُ بِجُمَّتِهِ ، وَكَانَ ذَا شَعَرٍ كَثِيرٍ.

قَالَ سعد: فو الله إنِّي لَفِي أيدِيهم إذ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِن قُرَيشٍ، فِيهِم رَجُلٌ وَضِيءٌ أبيَضُ، شَعشَاعٌ، حُلوٌ مِن الرِّجَالِ.
قَالَ: فَقُلتُ فِي نَفسِي: إن يَكُ عِندَ أحَدٍ مِن القَومِ خَيرٌ، فَعِندَ هَذَا، قَالَ:
فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكمَةً شَدِيدَةً. قَالَ: فَقُلتُ فِي نَفسِي: لَا وَاَللَّهِ مَا عِندَهُم بَعدَ هَذَا مِن خير. قَالَ: فو الله إنِّي لَفِي أيدِيهِم يَسحَبُونَنِي إذ أوَى لِي رَجُلٌ مِمَّن كَانَ مَعَهُم، فَقَالَ وَيحَكَ! أمَا بَينَكَ وَبَينَ أحَدٍ مِن قُرَيشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهدٌ؟ قَالَ: قُلتُ: بَلَى، وَاَللَّهِ، لَقَد كُنتُ اُجِيرُ لِجُبَيرِ بنِ مُطعِمِ بنِ عَدِيِّ ابن نَوفَلِ بنِ عَبدِ مَنَافٍ تِجَارَةً ، وَأمنَعُهُم مِمَّن أرَادَ ظُلمَهُم بِبِلَادِي، وَلِلحَارِثِ ابن حَربِ بنِ اُمَيَّةَ بنِ عَبدِ شَمسِ بنِ عَبدِ مَنَافٍ، قَالَ: وَيحَكَ! فَاهتِف بِاسمِ الرَّجُلَينِ، وَاذكُر مَا بَينَكَ وَبَينَهُمَا. قَالَ: فَفَعَلتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلَيهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي المَسجِدِ عِندَ الكَعبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنَّ رَجُلًا مِن الخَزرَجِ الآنَ يُضرَبُ بِالأبطَحِ وَيَهتِفُ بِكُمَا، وَيَذكُرُ أنَّ بَينَهُ وَبَينَكُمَا جِوَارًا، قَالَا: وَمَن هُوَ؟ قَالَ سَعدُ بنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاَللَّهِ، إن كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تِجَارَنَا، وَيَمنَعُهُم أن يُظلَمُوا بِبَلَدِهِ. قَالَ: فَجَاءَا فَخَلَّصَا سَعدًا مِن أيدِيهِم، فَانطَلَقَ.

وَكَانَ الَّذِي لَكَمَ سَعدًا، سُهَيلَ بن عَمرو، أخُو بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ. قَالَ ابنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي أوَى إلَيهِ، أبَا البَختَرِيِّ بنَ هِشَامٍ قَالَ ابنُ إسحَاقَ: وَكَانَ أوَّلُ شِعرٍ قِيلَ فِي الهِجرَةِ بَيتَينِ، قَالَهُمَا ضِرَارُ بنُ الخَطَّابِ بنِ مِردَاسٍ، أخُو بَنِي مُحَارِبِ بنِ فِهرٍ فَقَالَ : تَدَارَكتَ سَعدًا عَنوَةً فَأخَذتَهُ