فَجَعَلَت قُرَيشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنهَا، وَقَامَ عَمُّهُ وَقَومُهُ مِن بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيَّ المُطَّلِبِ دُونَهُ، وَحَالُوا بَينَهُم وَبَينَ مَا أرَادُوا مِن البَطشِ بِهِ، يهمزونه ويستهزءون بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ القُرآنُ يَنزِلُ فِي قُرَيشٍ بِأحدَاثِهِم، وَفِيمَن نُصِبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنهُم، وَمِنهُم مَن سُمِّيَ لَنَا، وَمِنهُم مَن نَزَلَ فِيهِ القُرآنُ فِي عَامَّةِ مَن ذُكِرَ اللَّهُ مِن الكُفَّارِ، فَكَانَ مِمَّن سُمِّيَ لَنَا مِن قُرَيشٍ مِمَّن نَزَلَ فِيهِ القُرآنُ عَمُّهُ أبُو لَهَبِ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ وَامرَأتُهُ اُمُّ جَمِيلٍ بِنتُ حَربِ بنِ اُمَيَّةَ، حَمَّالَةَ الحَطَبِ، وَإنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى حَمَّالَةَ الحَطَبِ، لِأنَّهَا كَانَت تَحمِلُ الشَّوكَ فَتَطرَحَهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَيثُ يَمُرُّ، فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أنَّ اُمَّ جَمِيلٍ: حَمَّالَةَ الحَطَبِ، حِينَ سَمِعَت مَا نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوجِهَا مِن القُرآنِ، أتَت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي المَسجِدِ عِندَ الكَعبَةِ وَمَعَهُ أبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهرٌ مِن حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَت عَلَيهِمَا أخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلَّا أبَا بَكرٍ، فَقَالَت: يَا أبَا بَكرٍ: أينَ صَاحِبُكَ، فَقَد بَلَغَنِي أنَّهُ يَهجُونِي، وَاَللَّهِ لَو وَجَدتُهُ لَضَرَبتُ بِهَذَا الفِهرِ فَاهُ ! ثُمَّ انصَرَفَت، فَقَالَ أبُو بَكرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أمَا تَرَاهَا رَأتكَ؟ فَقَالَ: مَا رَأتنِي، لَقَد أخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي.
وَاُمَيَّةُ بنُ خَلَفِ بنِ وَهبِ بنِ حُذَافَةَ بنِ جُمَحٍ، كَانَ إذَا رَأى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ، فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَالعَاصِ بنُ وَائِلٍ السَّهمِيُّ، كَانَ خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قَينًا بِمَكَّةَ يَعمَلُ السُّيُوفَ، وَكَانَ قَد بَاعَ مِن العَاصِ ابن وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ حَتَّى كَانَ لَهُ عَلَيهِ مَالٌ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَهُ يَا خَبَّابُ ألَيسَ يَزعُمُ مُحَمَّدٌ صَاحِبُكُم هَذَا الَّذِي أنتَ عَلَى دِينِهِ أنَّ فِي الجَنَّةِ مَا ابتَغَى أهلُهَا مِن ذَهَبٍ، أو فِضَّةٍ، أو ثِيَابٍ، أو خَدَمٍ! قَالَ خَبَّابٌ: بَلَى. قَالَ: فَأنظِرنِي إلَى يَومِ القِيَامَةِ يَا خَبَّابُ حَتَّى أرجِعَ إلَى تِلكَ الدَّارِ فَأقضِيَكَ هُنَالك حقّك، فو الله لَا تَكُونُ أنتَ وَصَاحِبُكَ يَا خَبَّابُ آثَرَ عِندَ اللَّهِ مِنِّي، وَلَا أعظَمَ حَظًّا فِي ذَلِكَ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَلَقِيَ أبُو جَهلِ بنُ هِشَامٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- فَقَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَتَترُكَنَّ سَبَّ آلِهَتِنَا، أو لَنَسُبَّنَّ إلَهَكَ الَّذِي تَعبُدُ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
فَذُكِرَ لِي أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَفَّ عَن سَبِّ آلِهَتِهِم، وَجَعَلَ يَدعُوهُم إلَى اللَّهِ.
وَالنَّضرُ بنُ الحَارِثِ بنِ عَلقَمَةَ بنِ كَلَدَةَ بنِ عَبدِ مَنَافِ بنِ عَبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَجلِسًا، فَدَعَا فِيهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وتلا فِيهِ القُرآنَ، وَحَذَّرَ فِيهِ قُرَيشًا مَا أصَابَ الاُمَمَ الخَالِيَةَ، خَلَفَهُ فِي مَجلِسِهِ إذَا قَامَ، فَحَدَّثَهُم عَن رُستُمَ السِّندِيدِ ، وَعَن أسفِندِيَارَ، وَمُلُوكِ فَارِسَ، ثُمَّ يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِأحسَنَ حَدِيثًا مِنِّي، وَمَا حَدِيثُهُ إلَّا أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ، اكتَتَبَهَا كَمَا اكتَتَبتهَا. فَأنزَلَ اللَّهُ فِيهِ:
وَنَزَلَ فِيهِ : ﴿ إذا تُتلى عَلَيهِ آياتُنا قَالَ أساطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾
وَنَزَلَ فِيهِ: ﴿ وَيلٌ لِكُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ يَسمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتلى عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُستَكبِراً كَأن لَم يَسمَعها كَأنَّ فِي اُذُنَيهِ وَقراً، فَبَشِّرهُ بِعَذابٍ ألِيمٍ ﴾
وَالوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، قَالَ: أيُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاُترَكُ وَأنَا كَبِيرُ قُرَيشٍ وَسَيِّدُهَا! وَيُترَكُ أبُو مَسعُودٍ عَمرُو بنُ عُمَيرٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحنُ عَظِيمَا القَريَتَينِ! فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي:
وَاُبَيُّ بنُ خَلَفِ بنِ وَهبِ بنِ حُذَافَةَ بنِ جُمَحَ، وَعُقبَةُ بنُ أبِي مُعَيطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَينِ، حَسَّنَا مَا بَينَهُمَا. فَكَانَ عُقبَةُ قَد جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ اُبَيًّا، فَأتَى عُقبَةَ فَقَالَ لَهُ : ألَم يَبلُغنِي أنَّكَ جَالَستَ مُحَمَّدًا وَسَمِعتَ مِنهُ! - وَجهِي مِن وَجهِكَ حَرَامٌ أن اُكَلِّمَكَ- وَاستَغلَظَ مِن اليَمِينِ- إن أنتَ جَلَستَ إلَيهِ أو سَمِعتَ مِنهُ، أو لَم تَأتِهِ فَتَتفُلَ فِي وَجهِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ عُقبَةُ بنُ أبِي مُعَيطٍ لَعَنَهُ اللَّهُ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا:
وَمَشَى اُبَيُّ بنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِعَظمٍ بَالٍ قَد ارفَتَّ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أنتَ تَزعُمُ أنَّ اللَّهَ يَبعَثُ هَذَا بَعدَ مَا أرَمَّ ، ثُمَّ فَتَّهُ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ نَفَخَهُ فِي الرِّيحِ نَحوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: نَعَم، أنَا أقُولُ ذَلِكَ، يَبعَثُهُ اللَّهُ وَإيَّاكَ بَعدَ مَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمَّ يُدخِلُكَ اللَّهُ النَّارَ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَاعتَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالكَعبَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي- الأسوَدُ بنُ المُطَّلِبِ بنِ أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى، وَالوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَاُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وَالعَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهمِيُّ، وَكَانُوا ذَوِي أسنَانٍ فِي قَومِهِم، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلنَعبُد مَا تَعبُدُ، وَتَعبُدُ مَا نَعبُدُ، فَنَشتَرِكُ نَحنُ وَأنتَ فِي الأمرِ، فَإن كَانَ الَّذِي تَعبُدُ خَيرًا مِمَّا نَعبُدُ، كُنَّا قَد أخَذنَا بِحَظِّنَا مِنهُ، وَإن كَانَ مَا نَعبُدُ خَيرًا مِمَّا تَعبُدُ، كُنتَ قَد أخَذتَ بِحَظِّكَ مِنهُ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِم:
أي إن كُنتُم لَا تَعبُدُونَ إلَّا اللَّهَ، إلَّا أن أعبُدَ مَا تَعبُدُونَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنكُم، لَكُم دِينُكُم جَمِيعًا، وَلِي دِينِي.
وَأبُو جَهلِ بنُ هِشَامٍ، لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَخوِيفًا بِهَا لَهُم، قَالَ: يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ، هَل تَدرُونَ مَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُكُم بِهَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: عَجوَةُ يَثرِبَ بِالزُّبدِ، وَاَللَّهِ لَئِن استَمكَنَّا مِنهَا لَنَتَزَقَّمَنَّها تَزَقُّمًا. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَوَقَفَ الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، وَقَد طَمِعَ فِي إسلَامِهِ، فَبَينَا هُوَ فِي ذَلِكَ، إذ مَرَّ بِهِ ابنُ اُمِّ مَكتُومٍ الأعمَى، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يَستَقرِئُهُ القُرآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ مِنهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أضجَرَهُ، وَذَلِكَ أنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِن أمرِ الوَلِيدِ، وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِن إسلَامِهِ. فَلَمَّا أكثَرَ عَلَيهِ انصَرَفَ عَنهُ عَابِسًا وَتَرَكَهُ. فَأنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَكَانَ النّفَرُ الّذِينَ يُؤذُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبَا لَهَبٍ، وَالحَكَمَ بنَ العَاصِ بنِ اُمَيّةَ، وعقبة بن أبى معيط، وعدىّ ابن حَمرَاءَ الثّقَفِيّ، وَابنَ الأصدَاءِ الهُذَلِيّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَم يُسلِم مِنهُم أحَدٌ إلّا الحَكَمُ بنُ أبِي العَاصِ، فَكَانَ أحَدُهُم- فِيمَا ذُكِرَ لِي- يَطرَحُ عَلَيهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ رَحِمَ الشّاةِ وَهُوَ يُصَلّي، وَكَانَ أحَدُهُم يَطرَحُهَا فِي بُرمَتِهِ إذَا نُصِبَت لَهُ. حَتّى اتّخَذَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ- حِجرًا يَستَتِرُ بِهِ مِنهُم إذَا صَلّى، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذَا طَرَحُوا عَلَيهِ ذَلِكَ الأذَى، كَمَا حَدّثَنِي عُمَرُ بنُ عَبدِ الله بن عروة ابن الزّبَيرِ، عَن عُروَةَ بنِ الزّبَيرِ، يَخرُجُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على العُودِ، فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ، ثُمّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبدِ مَنَافٍ، أيّ جِوَارٍ هَذَا! ثم يلقيه فى الطريق.