ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَومُهُ أشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيهِ مِن خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إلَّا قَلِيلًا مُستَضعَفِينَ، مِمَّن آمن بِهِ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفسَهُ فِي المَوَاسِمِ، إذَا كَانَت، عَلَى قَبَائِلِ العَرَبِ يَدعُوهُم إلَى اللَّهِ، وَيُخبِرُهُم أنَّهُ نَبِيٌّ مُرسَلٌ، وَيَسألُهُم أن يُصَدِّقُوهُ وَيَمنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم اللَّهُ مَا بَعَثَهُ بِهِ .

قَالَ رَبِيعَةَ بنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ : إنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ القَبَائِلِ مِن العَرَبِ، فَيَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ، إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيكُم، يَأمُرُكُم أن تَعبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأن تَخلَعُوا مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِ مِن هَذِهِ الأندَادِ، وَأن تُؤمِنُوا بِي، وَتُصَدِّقُوا بِي، وَتَمنَعُونِي، حَتَّى اُبَيِّنَ عَن اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ. قَالَ: وَخَلفَهُ رَجُلٌ أحوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ. فَإذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن قَولِهِ وَمَا دَعَا إلَيهِ، قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ، إنَّ هَذَا إنَّمَا يَدعُوكُم أن تَسلُخُوا اللَّاتَ وَالعُزَّى مِن أعنَاقِكُم، وَحَلفَاءَكُم مِن الجِنِّ مِن بَنِي مَالِكِ بنِ اُقَيشٍ ، إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِن البِدعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ، وَلَا تَسمَعُوا مِنهُ.

قَالَ: فَقُلتُ لِأبِي: يَا أبَتِ، مَن هَذَا الَّذِي يَتبَعُهُ وَيَرُدُّ عَلَيهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبدُ العُزَّى بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، أبُو لَهَبٍ.

قَالَ ابنُ إسحَاقَ: حَدَّثَنَا ابنُ شِهَابٍ الزُّهرِيُّ: أنَّهُ أتَى كِندَةَ فِي مَنَازِلِهِم، وَفِيهِم سَيِّدٌ لَهُم يُقَالُ لَهُ: مُلَيحٌ، فَدَعَاهُم إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيهِم نَفسَهُ، فَأبَوا عَلَيهِ. و أنَّهُ أتَى بَنِي عَامِرِ بنِ صَعصَعَةَ، فَدَعَاهُم إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيهِم نَفسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنهُم- يُقَالُ لَهُ: بَيحَرَةُ ابن فِرَاسٍ. قَالَ ابنُ هِشَامٍ: فِرَاسُ بنُ عَبدِ اللَّهِ بنِ سَلَمَةَ الخَيرِ بنِ قُشَيرِ ابن كَعبِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَامِرِ بنِ صَعصَعَةَ-: وَاَللَّهِ، لَو أنِّي أخَذتُ هَذَا الفَتَى مِن قُرَيشٍ، لَأكَلتُ بِهِ العَرَبَ، ثُمَّ قَالَ: أرَأيتَ إن نَحنُ بَايَعنَاكَ عَلَى أمرِكَ، ثُمَّ أظهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَن خَالَفَكَ، أيَكُونُ لَنَا الأمرُ مِن بَعدِكَ؟ قَالَ: الأمرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيثُ يَشَاءُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أفَتُهدَفُ نَحُورُنَا لِلعَرَبِ دُونَكَ، فَإذَا أظهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأمرُ لِغَيرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأمرِكَ، فَأبَوا عَلَيهِ.

فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ رَجَعَت بَنُو عَامِرٍ إلَى شَيخٍ لَهُم، قَد كَانَت أدرَكَتهُ السِّنُّ، حَتَّى لَا يَقدِرَ أن يُوَافِيَ مَعَهُم المَوَاسِمَ، فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا إلَيهِ حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ المَوسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيهِ ذَلِكَ العَامَ سَألَهُم عَمَّا كَانَ فِي مَوسِمِهِم، فَقَالُوا:
جَاءَنَا فَتًى مِن قُرَيشٍ، ثُمَّ أحَدُ بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ، يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، يَدعُونَا إلَى أن نَمنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخرُجَ بِهِ إلَى بِلَادِنَا. قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيخُ يَدَيهِ عَلَى رَأسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَل لَهَا مِن تَلَافٍ، هَل لِذُنَابَاهَا مِن مَطلَبٍ ، وَاَلَّذِي نَفسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ، مَا تَقَوَّلَهَا إسمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإنَّهَا لَحَقٌّ، فَأينَ رَأيُكُم كَانَ عَنكُم.

عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ كَعبِ بنِ مَالِكٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِم، فَدَعَاهُم إلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيهِم نَفسَهُ، فَلَم يَكُن أحَدٌ مِن العَرَبِ أقبَحَ عَلَيهِ رَدًّا مِنهُم.

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِن أمرِهِ، كُلَّمَا اجتَمَعَ لَهُ النَّاسُ بِالمَوسِمِ أتَاهُم يَدعُو القَبَائِلَ إلَى اللَّهِ وَإلَى الإسلَامِ، وَيَعرِضُ عَلَيهِم نَفسَهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِن اللَّهِ مِن الهُدَى وَالرَّحمَةِ، وَهُوَ لَا يَسمَعُ بِقَادِمِ يَقدَمُ مَكَّةَ مِن العَرَبِ، لَهُ اسمٌ وَشَرَفٌ، إلَّا تَصَدَّى لَهُ، فَدَعَاهُ إلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيهِ مَا عِندَهُ.

قَدِمَ سُوَيدُ بنُ صَامِتٍ، أخُو بَنِي عَمرِو بنِ عَوفٍ، مَكَّةَ حَاجًّا أو مُعتَمِرًا، فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ، فَدَعَاهُ إلَى اللَّهِ وَإلَى الإسلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثلُ الَّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَجَلَّةُ لُقمَانَ - يَعنِي حِكمَةَ لُقمَانَ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: اعرِضهَا عَلَيَّ، فَعَرَضَهَا عَلَيهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ هَذَا لَكَلَامٌ حَسَنٌ، وَاَلَّذِي مَعِي أفَضلُ مِن هَذَا، قُرآنٌ أنزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ، هُوَ هُدًى وَنُورٌ. فَتَلَا عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القُرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسلَامِ، فَلَم يَبعُد مِنهُ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا لَقَولٌ حَسَنٌ. ثُمَّ انصَرَفَ عَنهُ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ عَلَى قَومِهِ، فَلَم يَلبَث أن قتلته الخَزرَج، فان كَانَ رِجَالٌ مِن قَومِهِ لَيَقُولُونَ: إنَّا لَنَرَاهُ قَد قُتِلَ وَهُوَ مُسلِمٌ. وَكَانَ قَتلُهُ قَبلَ يَومِ بُعَاثٍ .